في تمام الساعة الحادية عشرة و15 دقيقة ظهر يوم 13 يوليو من سنة 1979، وصلت سيارة مرسيدس صفراء اللون أمام السفارة المصرية في أنقرة، المطلة على شارع أتاتورك، الشارع الرئيسي في العاصمة التركية.
توقفت السيارة، وهبط منها أربعة أشخاص، بينما فر سائق المرسيدس هارباً بأقصى سرعة.
أخرج الأربعة أسلحة كانوا يخبِّؤونها تحت ملابسهم، ليطلقوا النار على حارسَي أمن بوابة السفارة، فيسقطا على الفور، ثم ينطلقوا إلى داخل السفارة، معلنين بداية أيام صعبة وشاقة على عدد من الدول، أولها بالضرورة: مصر وتركيا، وعواصم وجماعات أخرى سيأتي الحديث عنها لاحقاً.
قبل هذا اليوم بنحو عام وعشرة أشهر، وبالتحديد في 9 نوفمبر من سنة 1977، وقف الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات أمام مجلس الشعب المصري ليقول: «مستعد للذهاب إلى آخر الدنيا، وسيُدهش الإسرائيليون حينما يسمعوننى الآن أقول: إننى مستعد أن أذهب إلى بيتهم، إلى الكنيست ذاته». هذه الجملة أدهشت العالم كله قبل أن تدهش الإسرائيليين كما توقع السادات، فتحركت تل أبيب سريعاً، ووجهت للرئيس المصري الدعوة لزيارة إسرائيل عبر خطاب رسمي أرسله رئيس وزراء إسرائيل حينها، مناحم بيجين، وكان ذلك يوم 16 نوفمبر (أي بعد سبعة أيام فقط من خطاب الرئيس الراحل)، ليرد السادات فى اليوم التالي بقبول الزيارة، فيصدر بيجين مرسوماً بأن يُستقبل السادات في إسرائيل بشرف وكرامة لا تليق برئيس دولة فقط، وإنما رئيس دولة حليفة قريبة!
ذهب السادات إلى الكنيست وألقى خطبته الشهيرة التي دعا فيها إلى السلام بين الدولتين في سياق أشمل، وبدأت بالفعل المحادثات بين القاهرة وتل أبيب، والتي انتهت بتوقيع اتفاقية مارس 1979، والمسماة بمعاهدة السلام.
في خلال السنتين 1977 و1979 كانت احتجاجات الفلسطينيين (المنظمات والأفراد) متزايدة على المحادثات التي كانت تجري بين مصر وإسرائيل، وقد وصلت مداها في نيقوسيا بقبرص، فبراير 1978، عندما اغتيل الأديب المصري يوسف السباعي باعتباره رئيس الوفد المصري المشارك في مؤتمر التضامن الأفرو آسيوي، وأحد الداعمين لفكرة سلام القاهرة مع تل أبيب، حينها احتجز مسلحان نحو 20 من المشاركين في المؤتمر، قيل في بداية الأمر إنهما فلسطينيان، ثم اتضح بعد ذلك أن أحدهما فلسطيني والآخر عراقي، لتنتهي العملية التي سُميت فيما بعد بعملية مطار لارنكا بإغارة قوات صاعقة مصرية يساندها قوات من دول أخرى، نجحت في تحرير الرهائن.
البعض يعتبر أن عملية مطار لارنكا هي أعنف شكل من أشكال الاحتجاج الفلسطيني على محادثات السلام، ربما لأن أحد نتائجها هو اغتيال قيمة بحجم يوسف السباعي، لكن عملية أخرى كان لها من التداعيات ما يجعلها الأخطر، وهي عملية اقتحام السفارة المصرية في أنقرة!
الأشخاص الأربعة الذين اقتحموا السفارة فلسطينييون، أو تابعون لإحدى المنظمات الفلسطينية، عرف العالم ذلك بعد دقائق قليلة من عملية الاقتحام، التي وصفتها صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية بكل دقة، فقالت: «إن المسلحين ما إن صعدوا سلالم السفارة، حتى هرع رجال الشرطة من المنطقة المجاورة للاشتباك معهم، فقام المسلحون بإلقاء القنابل اليدوية عليهم، ثم أطلقوا النار بشكل عشوائي؛ ما أدى إلى إصابة أحد رجال الشرطة في تلك المعركة».
وتضيف الصحيفة في تغطيتها أن المسلحين بعد أن قتلوا الحارسين التركيين استولوا على السفارة بشكل كامل، واتخذوا 20 رهينة، من بينهم السفير المصري حينها، أحمد عبد الرحيم كامل.
بعد الاستيلاء على المبنى ألقى المسلحون رسالة باللغة العربية من إحدى النوافذ، عرفوا أنفسهم فيها بأنهم فلسطينيون، ولهم مطالب، أولها الإفراج عن شخصين محبوسين في مصر، وثانيها أن تقطع تركيا علاقاتها الدبلوماسية مع كل من مصر وإسرائيل، والاعتراف بدلاً من ذلك بما وصفوه بالدولة الفلسطينية، وثالثها إدانة محادثات السلام المصرية الإسرائيلية.
أما الطلب الرابع فهو طائرة لنقلهم ورهائنهم إلى بلد عربي!
خبر اقتحام السفارة واحتجاز الرهائن وإعلان المطالب
في اليوم الأول من الاقتحام كانت المفاوضات بين المسئولين الأتراك وبين المسلحين متقطعة وغير موصولة، فلم تجدِ شيئاً، وخلال اليوم أطلق المسلحون سراح رهينة تركية، كانت تعمل سكرتيرة في السفارة، لإثبات حُسن النوايا.
سار اليوم طويلاً على القاهرة وأنقرة وبيروت (مقر إقامة منظمة التحرير الفلسطينية وزعيمها ياسر عرفات وقتها)؛ إذ دعا الرئيس أنور السادات الحكومة التركية إلى القيام بكل ما هو ممكن لإنقاذ أرواح الرهائن المصريين المحتجزين في السفارة، مشدداً على عدم استخدام القوة إلا كملاذ أخير!
فيما كُلِّف رئيس الوزراء المصري حينها، مصطفى خليل، بالتواصل مع السلطات التركية بشأن الواقعة. خليل صرح للصحافة المصرية خلال اليوم الأول بأن مصر سوف تحمِّل منظمة التحرير الفلسطينية مسئولية هذا الحادث الخطير وعواقبه.
السخونة التي تعاملت بها القاهرة مع الحادث قابلتها بيروت (مقر منظمة التحرير الفلسطينية آنذاك) بسخونة مماثلة، وأكد متحدث باسم المنظمة عدم مسئوليتهم عن الحادث.
أما أنقرة فتحولت فعلاً إلى بؤرة أحداث بسبب الحادث، حيث دعا رئيس الوزراء التركي حينها، بولنت أجاويد، إلى اجتماع حكومي طارئ، وقرر إنشاء مركز للقيادة والمتابعة إلى جوار مبنى السفارة، وزاره أجاويد ووزير داخليته حسن جونيس أكثر من مرة خلال ساعات قليلة.
فيما التقى وزير الخارجية التركي جوندوز أوكجون مسئولين من ليبيا وسوريا والعراق والكويت، أبدوا استعدادهم للمساعدة الطارئة.
اليوم الثاني من احتلال السفارة (كما وصفته أكثر من وسيلة إعلام عربية وعالمية) كان مليئاً بالأحداث، فقد نجحت رهينتان في الهروب من السفارة بعد أن تسلقا نافذة الطابق الأرضي، وعندما حاول آخران الهروب بنفس الطريقة ولكن بالقفز من الطابق الثاني، لقي أحدهما مصرعه، بينما أصيب آخر بجروح خطيرة، فهرع رجال الشرطة الذين حاصروا مبنى السفارة إلى إنقاذه، لكن المسلحين أطلقوا النار عليهم، ما أعاق إنقاذ الرهينة المصاب، وفي النهاية نجحت قوات الشرطة في استعادة الجثة وإنقاذ الرجل المصاب، بعد أن وجهوا خراطيم المياه نحو الخاطفين.
بدأ الجانب التركي خلال ساعات ليل اليوم الثاني فتح قنوات تفاوض قوية مع الخاطفين عبر الهاتف. وفي الوقت نفسه كانت خمس سيارات مدرعة بداخلها قناصون يرتدون صديريات مضادة للرصاص ينتشرون أمام السفارة المتواجدة على شارع أتاتورك، الشارع الرئيسي في أنقرة.
نجحت سيارتان مدرعتان في الدخول إلى أرض السفارة، واثنتان خلف المبنى.
وفي لحظة من لحظات الحصار، وعندما ساد ظلام يوم 14 يوليو أضاء الأتراك مبنى السفارة بقوة، فانكشفت غرفها تماماً، لكن تهديد المقتحمين بتفجير مبنى السفارة بشكل كامل، وبداخله الرهائن، جعلهم يطفئون الأنوار سريعاً، لتجنب استفزاز المسلحين.
كانت السلطات التركية تتفاوض بهدوء أعصاب مع الخاطفين، الذين تسرب لهم شعور بأن الحادث سيمر بسلام فعلاً، لا سيما بعد أن وصلت عربة نقل مدرعة لتسليم الطعام إلى الرهائن، وخرج المسئولون عنها ليؤكدوا للجميع أن السفير المصري وجميع الرهائن في أمان، وقد أصدرت الحكومة التركية بياناً بهذا الأمر.
وفي الوقت نفسه كانت منظمة التحرير الفلسطينية تتحرك لحل المسألة، بإعلانها الاستعداد لإرسال وفد منها يتفاوض مع الخاطفين.
من بين المطالب التي أعلنتها المجموعة الفلسطينية الإفراج عن شخصين معتقلين في السجون المصرية، تبين فيما بعد أنهما يوسف سليم وإبراهيم الدية، وأنهما بالفعل معتقلان، حسب تقرير لوكالة أنباء الشرق الأوسط المصرية، أذاعته في وقت لاحق لعملية اقتحام السفارة، مؤكدة أن سليم والدية قد حُكم عليهما بالأشغال الشاقة مدى الحياة، وذلك بتهمة محاولة إدخال متفجرات إلى مصر؛ إذ أُلقي القبض على الرجلين في مطار القاهرة، وبحوزتهما كمية كبيرة من المتفجرات.
يوسف سليم وإبراهيم الدية شخصان عُرف فيما بعد أنهما تابعان لجماعة تُسمى نسور الثورة، والتي أعلن أشخاص، عرَّفوا أنفسهم كممثلين لها، بالصحف والوكالات في بيروت أنهم المسئولون عن حادث اقتحام السفارة المصرية في تركيا.
ربما كان تحرك منظمة التحرير الفلسطينية وإعلان استعدادها لإرسال مندوبين عنها للتفاوض هو في واقع الأمر إثبات إبعاد المسئولية عنها، وبالفعل وصل في صباح اليوم الثالث الوفد الفلسطيني بقيادة أبي فراس (مختار محمد إبراهيم بعباع)، عبر طائرة من طراز إف 28، أرسلتها الحكومة التركية إلى بيروت، لتأتي بالوفد الفلسطيني، حيث سمحت لهم السلطات التركية بالتفاوض مع المسلحين، حقناً للدماء، وما إن مر وقت قصير في عملية التفاوض حتى أعلن المسلحون استسلامهم!
خبر يفيد بوصول وفد منظمة التحرير للتفاوض وتأثير تدخلهم على الأحداث
تقول صحيفة السفير اللبنانية، في عددها الصادر في يوم 16 يوليو، إن المسلحين سلموا أنفسهم للسلطات التركية بعد ثلاثة أيام من احتلال السفارة المصرية في أنقرة، مشيرة إلى أن نهاية الحادث انطوت على مشهد إيجابي ملفت، حيث ألقى المسلحون بنادقهم وقنابلهم وأدوات الحصار الأخرى إلى السلطات التركية، فيما خرجوا من السفارة وهم يشيرون بعلامات النصر، ويعانقون الرهائن وفيهم السفير المصري أحمد كامل علما!
خبر بصحيفة السفير اللبنانية عن انتهاء العملية وكواليس المفاوضات
وقد أكد أبو فراس، مبعوث الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير التاريخي، أن المشهد الختامي للحادث عزز من قوة العلاقات بين منظمة التحرير وأنقرة، حسب وصفه الذي نقلته الصحيفة اللبنانية، التي أشارت من جانبها إلى أن إسرائيل استغلت الحادث للهجوم على عرفات.
مفهوم وقتها أن تنحاز الصحيفة اللبنانية لعرفات ومنظمة التحرير والفلسطينيين بشكل عام، لا سيما في ظل توتر العلاقات المصرية العربية بسبب محادثات السلام، إلا أن صحيفة لودي نيوز الأمريكية وصفت مشهد الاستسلام بشكل مذهل، فقالت: «بعد أقل من 30 دقيقة من مفاوضات الوفد الفلسطيني مع الخاطفين خرج المسلحون إلى إحدى نوافذ السفارة يهتفون ويصرخون عبر مكبرات الصوت: تحيا الثورة الفلسطينية، تحيا فلسطين، تحيا تركيا، ودعوا وزير الداخلية التركي حسن جونيس إلى الشرفة، فخرج هو الآخر وصافحوه بشدة، ثم أخرجوا السفير المصري أحمد كامل علما، رهينتهم الثمينة، ورفعوا يده عالياً، وابتسم كامل الذي كان يعاني من مشاكل في القلب، بشكل بسيط»، وفقاً لرواية الصحيفة الأمريكية.
وتضيف الصحيفة أنه «بعد تسليم المسلحين أنفسهم للسلطات التركية نُقلوا إلى فيلا فاخرة بالقرب من السفارة، ثم إلى مقر الشرطة؛ إذ تعهد رئيس الوزراء التركي بولنت أجاويد، الذي كان على وشك إصدار أمر بالهجوم على السفارة كملاذ أخير، بأنهم لن يغادروا تركيا».
في أواخر شهر يوليو من العام نفسه، بدأت محاكمة المسلحين الفلسطينيين الأربعة في تركيا، وحسب ما ذكرت صحيفة الرأي الأردنية، كانت المحاكمة عسكرية، وأضافت الصحيفة أن المسلحين أودعوا داخل سجن ماماك العسكري المشدد، شرقي أنقرة، وكانوا يذهبون إلى المحاكمة تحت حراسة مشددة، وقد رأس المحكمة الكولونيل حمدي سفينيك، وذكرت الصحيفة أسماء المتهمين لأول مرة، وهم: مروان شعبان (مواليد 1955 ومن سكان مخيم الرشيدي بجنوب لبنان)، وحسن سليمان (مواليد 1965 ومقيم في مخيم الرشيدي أيضاً)، ومحمد ديب بركات (مواليد 1960 وتبين أنه سوري الجنسية)، ومصطفى بسيس (مواليد 1960 في بيروت، ويقيم في مخيم برج البراجنة).
خبر ببدء محاكمة الفدائيين الأربعة أمام محكمة عسكرية
إذن الأربعة كان من بينهم لبناني وسوري، وفلسطينيان يقيمان في مخيمات للاجئين في لبنان، فيما أكدت بعض التقارير الأخرى حول جنسيات الفلسطينيَّين أنهما من سوريا!
وذكرت صحيفة الرأي كذلك أن السلطات التركية ألقت القبض على ثلاثة أتراك ساعدوا المهاجمين الأربعة وأمدوهم بالسلاح - بندقية كلاشنكوف وثلاثة مسدسات وثلاث دروع واقية من الرصاص - في مكان بالقرب من أنقرة، بينما ذكرت صحيفة ميلات التركية أن السكرتيرة التي أطلق المسلحون سراحها أثناء واقعة الاقتحام قُبض عليها أيضاً، واسمها بحر أوزتورك، وذكرت الصحيفة أنها سهلت مهمة المختطفين!
خبر بصحيفة الرأي: تقديم مهاجمي السفارة المصرية للمحاكمة
في 1980 قضى القضاء التركي بإعدام المهاجمين الأربعة، إلا أنه في شهر يونيو من العام 1981 أعاد القضاء التركي محاكمة المتهمين من جديد، وقد ذكرت الصحف أن مسوغات إعادة المحاكمة هو أن ضحايا الحادث، خصوصاً فردي الأمن اللذين قُتلا في بداية الاقتحام، لم يقتلا مع سبق الإصرار والترصد.
خبر عن إعادة محاكمة مهاجمي السفارة
وفي العام 1983 أصدرت المحكمة حكمها النهائي بإعدام الأربعة، وذلك بعد نحو عامين من اغتيال الرئيس أنور السادات، فيما واصلت منظمة نسور الثورة القيام بعمليات اغتيال وهجوم على شخصيات عربية، والأكثر دهشة أنها أيضاً استهدفت شخصيات فلسطينية.
خبر الحكم النهائي بإعدام الأربعة